الأحد، أغسطس 28، 2016



تغييب العقل المسلم

                     


                                                         أ.د.. سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود



يقف العالم الإسلامي اليوم على مفترق طرق، فإما أن يحسن الفهم والوعي، ويتبع منهاج الله القويم، فيستعيد دوره الحضاري، وقيادة العالم، وإلا ضاعت الفرصة من بين يديه، وظل في تخبطه وضياعه.
ذلك أن المسلمين في هذا العصر يعيشون أزمة حادة، افتقدوا خلالها الكثير من أصول منهاجهم الإسلامي الصحيح، فانحسار شهودهم الحضاري، وعجزهم عن التقويم والمراجعة، ومعرفة أسباب ما وقعوا فيه من قصور، وما حاصرهم من خلل وتقصير، أوقفهم عن أداء ما تحملوه من أمانة الرسالة، والشهادة على الناس، بل والقيادة لهم، حتى أصبحوا على هامش الحياة والحضارة، فضلاً عن السبق في المستقبل، حتى كاد الجميع يتفق على أن الأمة الإسلامية تمر بمرحلة جد صعبة من التفكك والتمزق، وفقدان الهوية، والانهزامية النفسية، والعجز العقلي عن الخروج من حالة التيه، أو مرحلة "القصعة" كما وصفها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فعلى الرغم من كثرة عدد المسلمين فإنهم غثاء كغثاء السيل. قال صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "لا، بل كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن". قيل: وما الوهن يا رسول الله، قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
قال الشاعر:
كثر، ولكن عديد لا اعتداد بـه   
جمع، ولكن بديـــد غير متسق
حارت عقائدنا، زاغت قواعدنا
أمــا الرؤوس فرأي غير متفق
إن هذا الغياب الحضاري الذي يعيشه المسلمون في هذا العصر ليس وليد الفقر في القيم، أو العجز في الإمكانات المعنوية والمادية، لكنه أزمة فكرية، ومشكلة عقلية، نتجت من عجز العقل المسلم المعاصر عن التعامل مع القيم الإلهية، والواقع المعاصر بما يستلزمه من متطلبات الحضارة  المعاصرة.
إذاً فالمشكلة أولاً وأخيراً هي أزمة فكر، وغياب عقل.
ولكن كيف يمكن تغييب عقل ما؟ وكيف يمكن تغييب العقل المسلم؟ وهل هذا ممكن؟ أي هل يمكن أن تفقد أمة عقلها؟
أجل، يمكن أن تفقد أمة عقلها في حقبة تأريخية معينة، وهذا الفقدان هو في الأغلب غير حقيقي؛ لأن العقل الجماعي يمكن أن يغيب ولا يمكن أن يفقد نهائياً إلا إذا غابت الأمة نفسها عن الوجود، وهذا ما لم يحصل للأمة الإسلامية ولن يحصل بإذن الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد تعهد بحفظ دينه، ويقيض على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها.
ويستوقفنا سؤال: لماذا التركيز على أهمية العقل؟
ونقول:
إن الإسلام قد اهتم بالعقل اهتماماً واضحاً، وجعله مناط التكليف وموضع تكريم الإنسان، الذي به تتحقق إرادته فيكون أهلاً لحمل الأمانة، أمانة الخلافة في الأرض، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..}، وإعمارها كما أراد الله سبحانه وتعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..}. ذلك أن العقل الموجه المدرب هو الذي يملك القدرة على بناء الحضارة بمستلزماتها المادية والعلمية والثقافية والعملية كلها، والتصدي لمشكلات الحياة، ومعوقاتها.
والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجدها قد عولت على العقل، ونوهت به، وألحت على استخدامه، والعمل به، والرجوع إليه، وتكرار الإشارات القرآنية الواضحة في هذا الشأن لا تدع مجالاً للشك في أهمية العقل ومكانته في الشريعة الإسلامية، ولم تترك الآيات القرآنية جانباً من جوانب العقل ووظائفه إلا وتناولته:
فالقرآن الكريم قد خاطب العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد.
فنجد مثلاً أن الآيات التي تتحدث عن عظمة الله، وقدرته، ومخلوقاته، تنتهي دائماً بمثل قوله تعالى: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}، {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. وغيرها، ومثلها الآيات التي تدعو إلى توحيد الله، أو تذكر بأحوال الأقوام السابقين، وموقفهم من الرسالات السماوية، وهكذا. ويكفي العقل شرفاً أن الله قد جعله مناط التكليف. ويبقى ملحظ مهم ألا وهو أن العقل لا يستطيع المضي وحده، وذلك لتعدد الدروب، وتشعب المسالك؛ لأجل هذا لم يتركه الإسلام يمضي من غير توجيه، بل رسم له منهاجاً تربى من خلاله على أصول التفكير السليم والعلم القويم.
وبعد هذا، كيف يمكن أن يغيب العقل المسلم عن ساحة الشهود الحضاري؟
إن غياب العقل المسلم المعاصر عن ساحة الشهود الحضاري له أسباب وعوامل داخلية ذاتية، وخارجية.
تكمن في أن العقل المسلم قد أصيب بكسور خطيرة، أهمها ذلك الجمود الفكري الذي أدى إلى تحجر العقل المسلم، واختلال بنيته الفكرية، فتزعزت طروحاته العقدية التي بني عليها، فحدث الشرخ الذي أفقد الحياة توازنها، مما أدى إلى ظهور الخلل في جوانبها المختلفة العقدية، والعلمية، والاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، وركز الاهتمام على الجزئيات وصغائر الأمور، والاشتغال بالقضايا الجانبية، فاستهلك الجهد، وبددت الطاقة، وتعثرت المسيرة الحضارية؛ لغياب الوعي الصحيح، وانطفاء الفاعلية، وتوقف القدرة على استيعاب الظروف المحيطة، وحسن التعامل معها.
هذا الموقف السالب، والانهزامية العقلية، فتحا باب الطعن في المنهاج الإسلامي على مصراعيه.
فكان أن ظهرت بعض الدراسات الحديثة مدعية أن "سلطة السلف" قد مارست نوعاً من القهر أسهم في إضعاف العقل المسلم، ومن ثم أدت إلى غيابه عن الساحة؛ بحجة أن تلك السلطة فرضت على العقل المسلم أن يظل أسيراً للنص، وهذا الأسر أدى مع مرور الزمن إلى فقدان العقل فاعليته، ومن ثم غيابه.
ومما يؤسف له أن معظم الدراسات المعاصرة التي بحثت هذا الموضوع تدور في هذه الحلقة التي لا يخفى ما فيها من تلبيس، ومن هذه الدراسات:
ما كتبه د. محمد عابد الجابري. فمن كتبه: (بنية العقل العربي، وتكوين العقل العربي، الخطاب العربي المعاصر دراسة تحليلية نقدية).
ود. محمد أركون في كتابه: (نقد العقل المسلم)، و(الإسلام أصالة وممارسة) و(الفكر الإسلامي قراءة علمية) وغيرها.
ويمكن الرد على هذه الدراسات ببيان حقيقة أساسية، هي:
أن تراثنا الإسلامي، وبخاصة الفقهي، قد اتسم بسمة أساسية هي أنه نتاج مفتوح للاجتهاد، فلم يقل واحد من فقهائنا إن ما توصل إليه من اجتهادات، أو أحكام هي نهاية المطاف، أو إنها القول الفصل، بل لقد قالوا: إن ما توصلنا إليه صواب يحتمل الخطأ، والمخالف على خطأ يحتمل الصواب، وإن الحكم العرفي يمكن أن يتبدل بتبديل الأزمان، على قاعدة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال.
وهذا يعني أن تراثنا الإسلامي، بصورة عامة، لم يمارس على المسلمين تلك السلطة القاهرة المزعومة. ودعواهم هذه في حقيقتها لها غاية خطيرة هي إسقاط النص والتلاعب بالوحي الإلهي بداعي الهوى، والتحرر من الدين.
ومع هذا فإننا نقول: إن بعض المسلمين قد اختاروا الطريق الأسهل فتوقفوا عند القدماء، وأغلقوا باب الاجتهاد الذي لم يقل أحد من السلف الصالح بإغلاقه، يوم أن استضاؤوا بنور الوحي، وأعملوا ملكات العقل، فبنوا تلك الحضارة الرائعة التي مازال العالم حتى يومنا الحاضر يقتبس من نورها، ويستقي من مناهلها الرائقة.
يقول الشاعر:
سارت مبادئهم وسارت خلفها
أفعــــــالهم في موكـــب متمثل
ليست مبادئهم حديــث منسـق
زيـــف اللسان ولا كلام مجمل
ونقول: إن بعض المسلمين قد شاعت بينهم روح التحزب والتكتل والوقوع في عمليات الاستقطاب، والافتنان ببعض القيادات إلى درجة ذوبان الشخصية، وضياع النفس والعقل في الانقياد الأعمى والمغالاة في الثقة والاستسلام.
ونقول أيضاً: إن بعض المسلمين قد وقع في خطأ الإرهاب الفكري الذي يلزم الآخرين بالرأي الواحد، ويصادر الرأي المخالف ولو قام على اجتهاد سائغ، الأمر الذي أدى إلى تراجع حركة الاجتهاد والتجديد.
بالإضافة إلى تراجع العلوم الدينية وحصرها في نطاق ضيق لا يتعدى مجال التوحيد والعبادات، وفصلها عن واقع حياة المسلم المعاصر، وهو ما جعل العقل المسلم تنحسر فيه المفاهيم الإسلامية الأصلية لتحل محلها مفاهيم أخرى مغلوطة، على الرغم من أن كتاب الله مازال بين أيدينا، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطرة في كتبنا، وتأريخ أسلافنا تحفل به مكتبات العالم.
إن هذا الفهم المغلوط قد وقف بالمسلمين عند عتبة الماضي، وأنساهم أن الإسلام من حيث هو وحي إلهي مستقل عن الزمان والمكان؛ لأنه الماضي والحاضر والمستقبل، فهو حركة دائمة تدعو إلى التغيير والتجديد؛ لتحقيق الأمانة في خلافة الأرض وإعمارها.
أما الوقوف بالزمن، والتمسك بالماضي، والادعاء زوراً بأن هذا هو طريق السلف، فإن هذا هو التحريف الجاهل لمنهاج الإسلام، الذي سعى إلى تحريك طاقات الإنسان لا إلى قتلها، وهنا تظهر السطحية في فهم النصوص الشرعية، والتعسف في التعامل معها.
* تيارات التغريب والحداثة المفتونة بالتجربة الغربية، التي استهدفت إبعاد الأمة الإسلامية عن ثوابتها وأصولها، وإلحاقها بالفكر الغربي، حيث مارس أصحاب هذه التيارات من المفكرين، والصحافيين، والسياسيين، والفنانين، والأدباء، أساليب ملتوية ماكرة للتشكيك بقدرة التراث الإسلامي على إنهاض الأمة من جديد لممارسة دورها الحضاري.
* الغزو الصليبي الحديث للعالم الإسلامي الذي أراد تحطيم البنية الثقافية الإسلامية في البلاد المغزوة عن طريق نشر الثقافة الغربية، ومحاربة العربية والدراسات الإسلامية.
* الترويج للاتجاهات الفكرية والسياسية المناقضة للإسلام، والحاقدة عليه، والتي مزقت عقول المسلمين وولاءهم لدينهم وأمتهم، وأذكت بينهم نار الفرقة والفتنة، حين ربطتهم بقوميات وأفكار أبعدتهم عن الإسلام الصحيح مما غيب الوعي الإسلامي، ومن ثم الجيل الإسلامي الفاعل.
وإذا كان هذا هو حال المسلمين بصفة عامة، وإذا كان الرجل المسلم ما زال مقصراً متخلفاً، وبعيداً عن الصورة الإسلامية المطلوبة إلا أن حال المرأة أكثر تخلفاً وسوءاً.
فالناظر إلى الساحة الإسلامية لا يكاد يرى للمرأة المسلمة الواعية المثقفة وجوداً، ولا دوراً، على الرغم من أهمية دورها في هذا العصر الحافل بأقصى أنواع الصراعات والعقدية، والفكرية، والاجتماعية، والسياسية، وإن كان لها وجود، فهو وجود محدد في أضيق نطاق لا تأثير له في تحريك عجلة التغيير الاجتماعي نحو الإسلام الصحيح إلا قليلاً. مع ما للمرأة من دور في إصلاح النوع الإنساني، وتحقيق مسيرة الحياة، فما السر في ذلك؟!
نقول: إن المرأة المسلمة قد نالت قسطها الوافي من تغييب العقل، وذلك بفضل عوامل داخلية محلية، وخارجية أيضاً.
فالمرأة المسلمة عانت من الخضوع لسلطات قاهرة، وظروف صعبة أسهمت في تغييب فاعليتها الإسلامية ثقافياً واجتماعياً وحضارياً.
من ذلك:
اعتساف بعض الرجال لحق القوامة، واستبدادهم بالمرأة حتى ألغوا عقلها، وكرامتها مما أسهم في ضمور ثقافتها ووعيها.
* التقليل من أهمية المرأة وحصر دورها في القيام بمهام الحمل والولادة والشؤون المنزلية. وفهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "ناقصات عقل ودين، فهماً خاطئاً أدى إلى مطالبة البعض بضرورة حبس المرأة في البيت ومنعها من الخروج منه رغم وجود الضوابط.
* أسلوب التربية القاصر الذي فرض على المرأة تقاليد وأعرافاً وعادات ليست من الإسلام في شيء: كمنعها من المناقشة، أو الحوار، أو إبداء الرأي؛ مما جعلها سهلة القياد، سريعة التأثر بما يطرح عليها من أفكار، وما يعرض عليها من أمور تتعامل معها بسلبية فاضحة، لا تترك لها مجالاً للنظر العقلي، أو التمييز الفكري.
* تغييب قضايا المرأة المعاصرة، ومشكلاتها الحضارية، وحصرها في مسألة الحجاب، والاختلاط، دون ما سواهما من قضايا حيوية مهمة.
ونقف هنا لنقول: أين نحن من هدي محمد صلى الله عليه وسلم في تربيته للنساء وتعامله معهن واعترافه بعقلهن؟
حين أخذ بمشورة أم سلمة - رضي الله عنها - في صلح الحديبية.
وهاهي عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قيل إنها كانت من أعلم الناس بالقرآن والفرائض، والحلال والحرام، والشعر، وحديث العرب، والنسب، والطب؛ حتى كانت مرجع الصحابة والتابعين إذا أشكل عليهم أمر من الأمور.
وقد يقول قائل: هؤلاء كن أمهات المؤمنين ولا نقيس عليهن. فنقول: هن لنا قدوة ومثال يحتذى.
ومع ذلك نورد أسماء بعض من كانت لهن في العلم والدعوة والمشاركة الفعالة في بناء الحضارة الإسلامية منزلة كبرى:
شهدة بنت الأبري الكاتبة، وكانت من أساتذة علم الحديث، تتلمذ على يديها كثر من العلماء، منهم: ابن الجوزي (الذي ذكر أنها من شيوخه)، وابن قدامه المقدسي، والمؤرخ المشهور ابن عساكر الذي كان من شيوخه نيف وثمانون امرأة.
أم حبيبة الأصبهانية عائشة بنت الحافظ معمر بن الفاخر القرشية العبشمية، كانت من شيوخ الحافظ المنذري الذي ذكر أنه حصل منها على إجازة.
زينت بنت عباس البغدادية، كانت من أهل الفقه والعلم والزهد والوعظ، وصفها ابن تيمية بالفضيلة والعلم، وكانت تحضر مجالس ابن تيمية، حتى إنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها، وسرعة فهمها.
كانت هذه بعض النماذج.. وفي بطون الكتب الكثيرات من النساء الفضليات اللاتي شاركن في بناء الحضارة الإسلامية بمناحيها المختلفة.
* أساليب التعليم التي لا نكاد نرى لها أثراً في تشكيل عقلية الفتاة المسلمة وتنمية ثقافتها؛ لأنها أساليب تفتقر إلى الهدف الواضح؛ ومن ثم فهي تجمد الفكر، وتعطل الملكات العقلية، وتؤدي إلى التبلد.
فكثافة المناهج وعدم مناسبتها للمراحل الدراسية المختلفة، وانعدام استخدام أسلوب التفكير، والتحليل والاستنباط، والمناقشة، والحوار، والاعتماد على الحفظ المجرد، والاتكالية في تلقي العلم من خلال حصر الطالبة في الكتاب المقرر، بالإضافة إلى نظام الامتحانات الذي يجعل الغاية هي الحصول على الدرجة، وبالتالي الشهادة، دون أن يكون لها رصيد من علم أو ثقافة.
* وسائل الإعلام التي قامت بضخ جرعات هائلة من الميوعة والعبث والتضليل الفكري والثقافي، حتى مسخت عقول الكثيرين والكثيرات، ونتج عن ذلك: التمزق النفسي والتناقض العقلي، وتضارب القيم والأفكار، فلا نجده يقدم إلا فكراً ضحلاً، وثقافة غثة، وعرضاً مملاً، وتركيزاً على توافه الأمور. وبدل أن يكون له دوره الفعال في بناء العقل، ورفع مستوى التفكير، وتعميق الثقافة، أصبح أداة تدميرية للفكر، والقيم والمبادئ.
هذه العوامل وغيرها أدت إلى تغييب الوعي الإسلامي الصحيح للمرأة المسلمة وفقدانها للفاعلية الاجتماعية، وإيقافها في وضع متخلف عن دورها الحقيقي في المجتمع.
ولكن ما الحل؟.. وما العمل؟ وكيف نعيد للعقل المسلم دوره الفعال، وللمرأة المسلمة فاعليتها الاجتماعية والحضارية؟ وكيف السبيل لإعادة المرأة المسلمة إلى ما كانت عليه من وعي وفكر؟!
من الواضح أن فكر الأمة الإسلامية كما هو عليه اليوم يحتاج إلى إصلاح، كما أن البناء النفسي للأمة بناء مختل.
ولما كان الإسلام يهدف إلى تصحيح الفكر، وإيقاظ العقل، وإصلاح النفسية، فإن الحل يبدأ من التغيير في عالم الأفكار، وإعادة صياغة العقل المسلم وترتيب بنيته من جديد، ومن ثم تفعيله ليقوم بالدور المأمول ويتحمل المسؤولية في الخلافة على الأرض وإعمارها.
لا بد من إعادة الوعي، ولكن على أساس الفكر الإسلامي الصحيح المستمد من الأصلين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ شريطة أن يتم ذلك بفهم شمولي لحقائق الإسلام، وعقل جوال، ونفوس صافية تخشى الله.
إن عملية الإصلاح وإعادة الوعي إلى العقل المسلم تستلزم وسائل وآليات، مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومتطلبات هذا العصر. والوسائل الناجعة كثيرة، نورد بعضاً منها فيما يلي:
1) الاهتمام بالتربية العقلية، التي لا تقل أهمية عن التربية الدينية، أو الخلقية، أو الجسمية.
والتربية العقلية تكون بتزويد فكر الفرد المسلم بما هو نافع ومفيد من العلوم بمختلف فروعها؛ لما في ذلك من إنضاج للفكر، وتعميق للعلم، وشمول الثقافة.
وفي مقدمة ذلك كله: الفهم الصحيح لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بما يستلزمه هذا الفهم من استيعاب حقيقي لمعنى "لا إله إلا الله"، والعمل بمقتضياتها، وتطبيق مستلزماتها تطبيقاً عملياً في واقع الحياة، بل وفي كل جزئية من جزئيات الحياة.
- تعويد العقل على الفهم العميق، والتدبر الرشيد، وأصول التفكير السليم، والبعد عن السطحية، الضحالة في التعامل مع ما يعرض له من أمور ومواقف.
-        تدريب العقل على الموازنة بين الأمور فلا يجنح باتجاه معين إلا إذا عرف البينة، أو الدليل. واستخدام ملكات العقل في التحليل، والمقارنة، والعمل الجاد، والبحث والتقصي؛ للوصول إلى الحق والصواب. والبعد عن التبعية المستسلمة، والانقياد الأعمى الذي يتنافى مع أصول الإسلام؛ فيكون الانقياد للمبادئ لا للأشخاص، وللحقائق لا للأشكال، وللفكرة لا للجماعة، وللمسميات لا للأسماء، وكما قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: "لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله".
-        وذلك وفق منهاج علمي يعيد بناء العقل المسلم ليكون شاهداً بعد غياب (1).
2) الدعوة إلى الله لتعليم الجاهل، وتذكير الغافل، وإرشاد الضال، ونشر حقائق الإسلام في شرائح الأمة  جميعها، والعمل على تنقيتها من الأهواء الشخصية، والتعصبات القومية، والاحتكارات الطائفية.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَولاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33].
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108].
3) إيقاظ حس المسؤولية في نفس الفرد المسلم تجاه ربه، ودينه، وأمته، لتحقيق التفاعل مع الواقع المعاش، والحضارة المعاصرة، بصورة متزنة بعيدة عن الإفراط، أو التفريط، قائمة على الإيجابية والبناء، لا السلبية والهدم.
من منطلق قوله صلى الله عليه وسلم : "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
4) تنمية المهارات الدعوية من خلال الدراسات الدعوية المكثفة المخططة، التي تسير وفق منهاج واضح ثابت، بعيد عن الارتجالية والتخبط، خاضع للمراجعة والنقد والتقويم المستمر في ضوء المستجدات.
5) المساهمة الفعالة في التأليف والنشر للمقالات، والكتب، وعقد الندوات والمحاضرات التي تعرض الحقائق الإسلامية الصحيحة حسب أولويات المرحلة. والبعد عن الطرح الدعوي السطحي، أو الجزئي الذي لا يتسم بالفاعلية والعمق، وكذلك البعد عن التعقيد والغموض.
6) الاهتمام بالمجتمع النسائي من خلال القيام بحملة قوية لتصحيح المفهومات الخاطئة عن المرأة، وجعل الحَكَم في مواطن الخلاف: الشرع لا العرف.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة: 50].
7) التركيز على النواحي العقلية والفكرية للمرأة وتنمية وعيها، وبحث القضايا والمشكلات التي تهم المرأة، وتمس صميم وجودها ككائن له عقل وفكر، والبعد عن التكرار السطحي للقضايا المستهلكة.
8) دراسة واقع المرأة المسلمة المعاصرة ومشكلاتها دراسة عميقة مستوفية، شاملة للجوانب جميعها، تستبين من خلالها مواطن الخلل، ومواضع القصور لتسهل بعد ذلك عملية الإصلاح والتقويم.
9) الاهتمام بالنشاطات الثقافية والاجتماعية الجادة التي تهم قطاع المرأة، وتحقق المنهاج الفكري الذي يسهم في إيجاد المرأة المسلمة الواعية، وتلبية حاجاتها لمواجهة الحياة، وتحديات العصر، ويتوافق مع مراحل الحياة الفكرية والنفسية، ويلبي مقتضيات الواقع المحيط.
10) تبصير المرأة المسلمة المعاصرة بخطورة دورها في بناء المجتمع المسلم المعاصر، والنهوض بحضارة الأمة الإسلامية، وما يستلزمه هذا الدور من متطلبات، وما يقتضيه من مواصفات، تعمل على تحويل الحلم إلى واقع، والأقوال إلى أفعال.
11) إعطاء المجتمع النسائي نماذج القدوة في الثقافة، والوعي، والعمل الجاد، والتفاعل واقتحام ميادين الحياة المختلفة بثقة وإقدام.
12) الاهتمام بتربية الناشئة تربية عقلية، وفكرية، ونفسية سليمة، تعمل على إيجاد الشخصية الإسلامية الواعية المثقفة المتكاملة المؤهلة لحمل مسؤولية الأمانة.
{إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}[الأحزاب:72].
13) إحياء روح الجماعة، وتعميق معنى الأخوة في الله، بتقوية الروابط الفكرية وتنمية المفهومات المشتركة، وتأصيل الأخلاق الإسلامية، القائمة على التعاون على البر والتقوى، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ..}[المائدة:2].
والتخلص من الشوائب التي علقت بالجماعات الإسلامية من نقد وتجريح، وسخرية وعدم ثقة، وتكذيب، ومحاربة، واتهام، شتت الشمل، وفرق الوحدة، وشغل المسلمين بعضهم ببعضهم الآخر.
14) الموازنة والربط بين الأصول العقدية، والحدود التشريعية، والأسس الأخلاقية؛ من أجل المواجهة الفعالة للأزمات الحضارية، والانتكاسات الفردية والاجتماعية، ومعالجة هذا السقوط المركب للأمة الإسلامية؛ تمهيداً لأحداث التغيير الإسلامي المنتظر للعقلية الإسلامية.
وأخيراً.. فإن مستقبل هذه الأمة وقف على ما نستطيع تحقيقه من تغيير وتنمية للأجيال القادم، وبنائها نفسياً وفكرياً، وفق أسس إسلامية صحيحة، ومنهاجية واضحة ورؤية سليمة، وتفكير شمولي واع لعمل مستقبلي بنّاء مبدع، آخذ بالأسباب، متجاوب مع سنن الله التي تحكم هذا الكون. فإن تغيير الواقع مرتهن بتغييرنا نفوسنا!
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..} [الرعد:11]




كلمة حق للشيخ الاستاذ عبد الفتاح مورو